سبب الغزوة
سبب هذه المعركة أن النبي محمد ﷺ بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بُصْرَى ، فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني ـ وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر ـ فأوثقه رباطاً ، ثم قدمه ، فضرب عنقه .وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم ، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب ، فاشتد ذلك على النبي ﷺ حين نقلت إليه الأخبار ، فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الخندق.[1].
وصية الرسول (صلى الله عليه وسلم)لأمراء الجيش
أمر الرسول على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال: (إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة)، وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة. وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعوا مَنْ هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم، وقاتلوهم، وقال لهم صلى الله عليه وسلم : (اغزوا بسم الله، في سبيل الله، مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء). وقد خرجت نساء المسلمين لتوديع ازواجهن وهن يقولون ((ردكم الله الينا صابرين)) فرد عبد الله بن رواحه وقال ((اما أنا فلا ردني الله))
عند مدينة مؤتة توقف المسلمين وكان عددهم ثلاثة آلاف وعدد الغسانين والروم مئتا الف. اختار المسلمون بقياده زيد بن حارثة، الهجوم على المشركين وتم الهجوم بعد صلاه الفجر وكان اليوم الأول هجوم قوي ومن صالح المسلمين بسبب ان الروم والغساسنه لم يتوقعوا من جيش صغير البداء بالهجوم، وفي اليوم الثاني بادر المسلمين أيضا بالهجوم وكان من صالح المسلمين وقتل كثير من الروم وحلفائهم إلى اليوم السادس حيث بادر الروم بالهجوم وكان أصعب وأقوى الايام وفيه استشهد زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحه. واختار المسلمين خالد بن الوليد قائدا لهم.
توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحه
ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس ، وودعوا أمراء رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وسلموا عليهم ، وحينئذ بكي أحد أمراء الجيش ـ عبد الله بن رواحة ـ فقالوا : ما يبكيك ؟ فقال : أما والله ما بي حب الدنيا ، ولا صبابة بكم ، ولكني سمعت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار : " وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا " [ مريم : 71 ] ، فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود ؟ فقال المسلمون : صحبكم الله بالسلامة ، ودفع عنكم ، وردكم إلينا صالحين غانمين ، فقال عبد الله بن رواحة :
لكنني أسأل الرحمن مغفــرة
أو طعنة بيدي حران مجـهزة
حتى يقال إذا مروا على جدثي
وضربة ذات فرع تقذف الزبدا
بحربة تنفذ الأحشـاء والكبدا
أرشده الله من غاز وقد رشدا
تحرك الجيش الإسلامي
وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل مَعَان ، من أرض الشام ، مما يلي الحجاز الشمالي ، وحينئذ نقلت إليهم الاستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم ، وانضم إليهم من لَخْم وجُذَام وبَلْقَيْن وبَهْرَاء وبَلِي مائة ألف.
المجلس الاستشاري بمعان
لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم ـ الذي بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة ـ وهل يهجم جيش صغير ، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فحسب ، على جيش كبير عرمرم مثل البحر الخضم ، قوامه مائتا ألف مقاتل ؟ حار المسلمون ، وأقاموا في مَعَان ليلتين يفكرون في أمرهم ، وينظرون ويتشاورون ، ثم قالوا : نكتب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فنخبره بعدد عدونا ، فإما أن يمدنا بالرجال ، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له . ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي ، وشجع الناس ، قائلاً : يا قوم ، والله إن التي تكرهون لَلَّتِي خرجتم تطلبون : الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا ، فإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور وإما شهادة . وأخيراً استقر الرأي على ما دعا إليه عبد الله بن رواحة .
الجيش الإسلامي يتحرك نحو العدو
وحينئذ بعد أن قضى الجيش الإسلامي ليلتين في معان ، تحركوا إلى أرض العدو ، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها : [ َشَارِف ] ثم دنا العدو ، وانحاز المسلمون إلى مؤتة ، فعسكروا هناك ، وتعبأوا للقتال ، فجعلوا على ميمنتهم قُطْبَة بن قتادة العُذْرِي ، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري .
بداية القتال وتناوب القواد
وهناك في مؤتة التقى الفريقان ، وبدأ القتال المرير ، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل . معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة ، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب . أخذالراية زيد بن حارثة ـ حِبُّ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ وجعل يقاتل بضراوة بالغة ، وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإسلام ، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم ، وخر صريعاً . وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب ، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير ، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها ، ثم قاتل حتى قطعت يمينه ، فأخذ الراية بشماله ، ولم يزل بها حتى قطعت شماله ، فاحتضنها بعضديه ، فلم يزل رافعاً إياها حتى قتل . يقال : إن رومياً ضربه ضربةً قطعته نصفين ، وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة ، يطير بهما حيث يشاء ، ولذلك سمي بجعفر الطيار ، وبجعفر ذي الجناحين .
روى البخاري عن نافع ، أن ابن عمر أخبره : أنه وقف على جعفر يؤمئذ وهو قتيل ، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ، ليس منها شيء في دبره ، يعني ظهره . وفي رواية أخرى قال ابن عمر : كنت فيهم في تلك الغزوة ، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى ، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية . وفي رواية العمري عن نافع زيادة : [ فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده ] .
ولما قتل جعفر بعد أن قاتل بمثل هذه الضراوة والبسالة ، أخذ الراية عبد الله بن رواحة ، وتقدم بها ، وهو على فرسه ، فجعل يستنزل نفسه ، ويتردد بعض التردد ، حتى حاد حيدة ثم قال :
أقسـمت يـا نفــس لتنــزلنـه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة
كارهــــة أو لتــطـاوعــــــنـه
مالي أراك تكرهيــن الــجنة
ثم نزل ، فأتاه ابن عم له بعَرْق من لحم فقال : شد بهذا صلبك ، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت ، فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسَة ، ثم ألقاه من يده ، ثم أخذ سيفه فتقدم ، فقاتل حتى قتل .
الراية إلى سيف من سيوف الله
وحينئذ تقدم رجل من بني عَجْلان ـ اسمه ثابت بن أقرم ـ فأخذ الراية وقال : يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم ، قالوا : أنت . قال : ما أنا بفاعل ، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريراً ، فقد روى البخاري عن خالد بن الوليد قال: لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف ، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية . وفي لفظ آخر: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف ، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية .البخاري (4266) وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يوم مؤتة ـ مخبراً بالوحي ، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال : ( أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذ جعفر فأصيب ، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ، حتى فتح الله عليهم ) . البخاري (2/611)
نهاية المعركة
ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة المريرتين ، كان مستغرباً جداً أن ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أما تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الروم ، ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين مما ورطوا أنفسهم فيه . واختلفت الروايات كثيراً فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيراً . ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار ، في أول يوم من القتال . وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة . فقد كـان يعرف جيداً أن الإفلات من براثنهم صعب جداً لو انكشف المسلمون ، وقام الرومان بالمطاردة .
فلما أصبح اليوم الثاني اعتمد خالد بن الوليد في خطته على الحرب النفسية حيث أمر عدد من الفرسان بأثارة الغبار خلف الجيش، وتعلو اصواتهم بالتكبير والتهليل كذلك قام بتبديل الرايات وغير أوضاع الجيش ، وعبأه من جديد ، فجعل مقدمته ساقه ، وميمنته ميسرة ، وعلى العكس ، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم ، وقالوا : جاءهم مدد ، فرعبوا ، وصار خالد ـ بعد أن تراءى الجيشان ، ،وهجم خالد بن الوليد على الروم وقاتل حتى وصلوا إلى خيمه قائد الروم ثم امر خالد بانسحاب الجيش بطريقة منظمة ـ وأخذ يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً ، مع حفظ نظام جيشه ، ولم يتبعهم الرومان ظناً منهم أن المسلمين يخدعونهم ، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء ولم يتبعوا خالد في انسحابه،
وهكذا انحاز العدو إلى بلاده ، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين ونجح المسلمون في الانحياز سالمين ، حتى عادوا إلى المدينة .
قتلى الفريقين
استشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلاً ، أما الرومان ، فقتل منهم ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون رجل.
كيف استقبل النبي وأهل المدينة الجيش
قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير. قال لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون. قال ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة فقال «خذوا الصبيان فاحملوهم، وأعطوني ابن جعفر. فأتى بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه. قال وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون يا فرار فررتم في سبيل الله قال فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى»[2]
قال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض آل الحارث بن هشام : وهم أخواله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال قالت أم سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة «مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع المسلمين ؟ قالت والله ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس يا فرار فررتم في سبيل الله حتى قعد في بيته فما يخرج»[2]
أثر المعركة
وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر ، الذي عانوا مرارتها لأجله ، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين ، إنها ألقت العرب كلها في الدهشة والحيرة ، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض ، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظِّلْف ، فكان لقاء هذا الجيش الصغير ـ ثلاثة آلاف مقاتل ـ مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير ـ مائتا ألف مقاتل ـ ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر . كان كل ذلك من عجائب الدهر ، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته ، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند الله ، وأن صاحبهم رسول الله حقاً . وكانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان ، فكانت توطئة وتمهيداً لفتوح البلدان الرومانية ، واحتلال المسلمين الأراضي البعيدة النائية .
أسماء شهداء المسلمين